قراءات مختارة في دراسات القانون والمجتمع (الجزء الأول) جميل سالم وريم البطمة
- Hits: 7003
- 0 Comments
يقدم الجزء الأول من سلسلة المقالات حول القانون والمجتمع مراجعة عامة مبدئية لمفهوم القانون والمجتمع في محاولة لتحديد الإطار المعرفي والمفاهيمي والتاريخي للحراك المتعلق بالقانون والمجتمع وحدود تشابكه مع موضوعات أخرى. وفي الأجزاء التالية سيتم تناول بعض المنظرين والنظريات الأساسية التي تتعلق بالقانون والمجتمع سواء منها الكلاسيكية أو التشكلات الحديثة في معالجة القانون والمجتمع.
مفاهيم ومسائل
تعتبر التعريفات التي تطرحها المؤسسات الأكاديمية والدوائر الاجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة والتي تدلي بدلوها في الدراسات الاجتماعية القانونية تجريدية في جانب كبير منها؛ فهي تعرّف هذه الدراسة بأنها "دراسة القانون والمؤسسات القانونية من وجهة نظر العلوم الاجتماعية"، أو باعتبارها تشمل الدراسات التي تُعنى "بالعلاقة القائمة بين المجتمع والإجراءات القانونية"[1].
وتتضمن كبريات الدوريات التي تصدر في الولايات المتحدة وبريطانيا في هذا المجال كلمتي "القانون" و"المجتمع" في عناوينها. غير أن هذا لا يعني أن العنوان لا يفرض مشكلة باعتباره توصيفاً لهذا الحقل الأكاديمي. بل إنه يعتبر كذلك لأنه يحمل في طياته في المقام الأول دلالة غير ملائمة توحي بأن القانون يتمايز عن المجتمع وبأنه ليس عاملاً من العوامل التي تشكّله. ومن الناحية التاريخية، ينطوي هذا العنوان على افتراضات وضعية منهجية تتعارض مع الدراسات التفسيرية وغيرها من الدراسات. ولهذه الأسباب، يُفضّل استخدام مصطلح الدراسات الاجتماعية القانونية على مصطلح دراسات "القانون والمجتمع".
وتفصح مراجعة سريعة للأدبيات المنشورة في هذا الحقل عن عدم وجود حدود واضحة أو خطوط محددة لبرامج الأبحاث والتعليم التي تُعنى بـ"القانون والمجتمع" أو الدراسات الاجتماعية القانونية. وفي الواقع، يتميز هذا الحقل الأكاديمي بتنوعه الغني؛ حيث يشمل هذا التنوع اهتمامات ومداخل ومناهج شتّى. وهذا بدوره يمنح الجامعات ومراكز الأبحاث الحرية المطلوبة للتركيز على المجالات التي تتناسب أكثر من غيرها مع الاحتياجات الحالية والمستقبلية للمجتمع الفلسطيني، وذلك ضمن الإمكانيات التي تتيحها الموارد (المادية والبشرية) المتوفرة له.
ظهرت الاهتمامات التقليدية التي تعنى بها دراسة "القانون والمجتمع" في مجالات البنية الاجتماعية للمهنة القانونية، والوصول إلى العدالة، والتسامح في ظل انعدام المساواة، وأشكال الاجتهاد التي تمارسها السلطات القانونية، والاختلافات الثقافية والتاريخية التي تنطوي عليها الممارسات القانونية، والمذاهب والأيديولوجيات، والمفهوم الذي يحمله ’رجل الشارع‘ حول القانون، وتحول المنازعات بمرور الوقت والأبعاد القانونية التي تنطوي المشكلات الاجتماعية عليها. ومؤخراً، زادت دائرة الاهتمام بهذا الحقل ليشمل النظرية والمناهج والسياسة التي تقع تحت تأثير المنظّرين الاجتماعيين الأوروبيين من قبيل فوكو (Foucault) وهابيرماس (Habermas) وبورديو (Bourdieu) وغيرهم.
وعلى المستوى المنهجي، يتم إيلاء قدر أكبر من الأهمية للتعددية المنهجية التي باتت تشكّل معْلماً من معالم الدراسات الاجتماعية القانونية. وقد تشكلت هذه التعددية خلال العقود الأخيرة نتيجةً للاهتمام بالأشكال التفسيرية للاستقصاء في العلوم الاجتماعية. وتعمل مناهج التفسير بالتوافق مع الفكرة التي تفيد بأنه لا يمكن فهم القانون وحده بحسب النصوص والظواهر المادية التي يتسم بها. ولذلك، يجري تأويل الاهتمام بالمعاني والظواهر الموضوعية والسياقات التاريخية التي تميز القانون بصورة رمزية. ومن ثم تتحول المهمة التي يضطلع بها الباحث الاجتماعي القانوني إلى دراسة نطاق المعاني التي يختزنها القانون، بالإضافة إلى التبعات التي تخلّفها تلك المعاني على المواضيع التي يتناولها هذا القانون.
وعلى المستوى السياسي، يظهر تأثير علم اجتماع القانون الماركسي والفكرة التي تفيد بأن القانون يخدم مصالح جماعات أو طبقات معينة في المجتمع والدراسات القانونية النقدية في الاهتمام بالدلالات السياسية المتأصلة في العمل السياساتي وفي الحملات التي تسعى إلى إنفاذ الإصلاحات القانونية.
طرق متباينة للنظر إلى القانون
يستطيع المرء القول بأن دراسة "القانون والمجتمع" (أو الدراسات الاجتماعية القانونية أو علم اجتماع القانون) برزت إلى حيز الوجود من عمل الرعيل الأول من علماء الاجتماع الذين بحثوا وأثاروا التساؤلات حول الفكرة التي تفترض بأن القانون أمر يخص المحامين والقضاة دون غيرهم. وقد افترض هؤلاء العلماء بأن القانون كظاهرة يمكن، بل ويجب، دراسته من قبل علماء الاجتماع والعلماء الاجتماعيين وبأنه يتعين تقصّي طبيعة القانون ودوره ودلالاته في سياق اجتماعي. وعلى نقيض "النظريات" القانونية التي غالباً ما تدعي لنفسها صفة كونية لا تملكها، تعتبر المفاهيم التي تعرّف القانون محددة من الناحيتين التاريخية والثقافية. إن القانون بناء اجتماعي ثقافي، كما تتمحور المفاهيم التي تعرّف القانون حول فكرتين أساسيتين: أولاهما أن القانون يمثل تعبيراً عن "إجماع أخلاقي أو أمراً من "الهيمنة المنظمة. وبعبارة أخرى، يُفسر القانون في بعض الأحيان على أنه تعبير عن قيم ثقافية، وأحياناً على أنه إطار عقلاني للسلطة. فعلى سبيل المثال، يفترض فريدمان (Friedman) بأن وظيفة النظام القانوني تتمثل في توزيع حصة من القيم التي يشعر المجتمع أنها صحيحة والمحافظة عليها أو ما يشار إليه على وجه العموم بأنه العدالة، وذلكعلى الرغم من إدراكه للعلاقة التي تربط القانون بالرضا الاجتماعي. وفي جانب كبير منه، يمكن أن يقود هذا المفهوم الأساسي للمجتمع إلى الخروج بتفسير وظيفي خالص للقانون.
ومن بين علماء الاجتماع ومنظّريه الأوائل الذين وضعوا دراسة القانون ضمن منظور اجتماعي، نجد كارل ماركس (Karl Marx) وماكس فيبر (Max Weber)[2] وإميل دوركايم (Émile Durkheim)[3]. ففي حين اعتبر ماركس أن القانون جزء من البنية الأيديولوجية العليا التي تساعد على تعزيز مصالح الطبقات المهيمنة صاحبة الأملاك في المجتمع الرأسمالي، يعتبر دوركايم وفيبر، اللذان يمثلان أهم مؤسسي علم الاجتماع باعتباره علماً قائماً بذاته، أن علم اجتماع القانون أو سوسيولوجيا القانون تشكل جزءاً من النظرية الاجتماعية؛ حيث يتم التعامل مع القانون والتباينات التاريخية التي ينطوي عليها كجزء من الحياة الاجتماعية. وتجدر الإشارة إلى أن ويبر نفسه كان محامياً. ووفقاً لما يقوله، يشتمل القانون على جهاز قهري موجّه لفرض المعايير داخل مجتمع أو منظمة أو مؤسسة ما. وتختلف الدولة عن غيرها من المؤسسات في أنها تملك احتكار الاستخدام المشروع لـوسائل العنف.
تُفضل المناهج السوسيولوجية المتبعة في دراسة القانون، من قبيل منهج فيبر، الأنظمة القانونية الشكلية والمقنّنة باعتبارها ’عقلانية‘، وهي تركز بصورة عامة على الكلمة المحكيّة أو المكتوبة باعتبارها تفرض القوة الملزمة للقانون والتي تتجاوز ’المعايير الضمنية‘ أو الأعراف والعادات والتقاليد التي يراعيها المجتمع. وتمثل الأنظمة القانونية المقننة التعبيرات القانونية عن العقلانية المتزايدة التي يتسم بها العالم الغربي الحديث وظهور دولة الشعب الحديثة بما تنطوي عليه من هيكليات معقدة ومتباينة. وبالنسبة لدوركايم، يُنظر إلى القانون باعتباره نقطة تجمّع تضمن "التكافل العضوي" (organic solidarity)، الذي يجد مكاناً له في المجتمعات المتقدمة التي تشهد تعقيدات كبيرة، وذلك في مقابل ما سماه "التكافل الآلي" (mechanical solidarity) الذي تشهده المجتمعات البسيطة من خلال تنظيم قدرات الأفراد وتوسيع نطاقها. ولكل نوع من التكافل نوع مقابل من القانون؛ فحيث يسود التوبيخ العقابي في المجتمعات البسيطة، التي سماها دوركايم بدائية، تعتبر العدالة التي تعيد الأوضاع إلى سابق عهدها مناسبة للتكافل العضوي. وفي المقابل، ينظر ماركس إلى القانون في المجتمعات الرأسمالية باعتباره أداة تُستخدم للمحافظة على النظام الرأسمالي. كما يرى القانون باعتباره عاملاً متغيراً تابعاً وليس قوةً مستقلةً، وبأن الدولة والقانون أداتان لهيمنة الطبقات وانعكاساً لهذه الهيمنة.
المدارس الفكرية
يشتمل الفقه الغربي على عدد من المدارس فكرية (أو نماذج) رئيسية في دراسة القانون. وتعود جميع هذه المدارس في جذورها إلى الفكر الذي كان سائداً في القرن التاسع عشر. وهذه المدارس هي: نظرية القانون الطبيعي، ونظرية القانون الوضعي، ونظرية نشوء القانون والفقه السوسيولوجي (أو علم اجتماع القانون). ويعتبر نموذج القانون الطبيعي أكثر النماذج بروزاً في هذه الأيام؛ حيث يطغى على المواضيع المطروحة في حقوق الإنسان العالمية، وهو ما يتمثل في وجود نظام دولي لـ"العدالة" و"الحق" والذي يمكن اكتشافه من خلال الحجة والمنطق. ويهاجم أصحاب نظرية القانون الوضعي نظرية القانون الطبيعي ويتهمونها بأنها غير علمية وبأنها تخلط بين القانون والأخلاق. وتتعامل نظرية القانون الوضعي مع القانون باعتباره أمراً ومصدراً "للشخص أو الجسم الذي يمتلك السيادة"، كما تربط القانون بالسيادة. أما نظرية نشوء القانون فقد ظهرت في القرن التاسع عشر كرد فعل آخر على الأفكار التي جاءت بها نظرية القانون الطبيعي. وتولي هذه النظرية قدراً أكبر من الاهتمام للمجتمع والثقافة من نظرية القانون الوضعي، كما تحاول أن تربط بين التطورات المترتبة على الأنظمة القانونية و"نشوء" المجتمعات، أي من مجتمعات تستند إلى المكانة إلى مجتمعات تقوم على أساس العقد ونظريات العقد الاجتماعي. وينحو علم اجتماع القانون إلى النظر إلى المجتمع باعتباره ساحة من المصالح المتنافسة، كما يعتبر القانون أداة للوساطة بين هذه المصالح. وهنا، نجد هذه التعريفات تتمحور حول المجتمع وليس حول الحكم، كما نرى أن القانون يشتمل على قواعد تُعدّ وتُنفذ من قبل مؤسسات خاصة.[4]
وقد دعا جورجز غورفيتش (Georges Gurvitch)[5] إلى تبنّي تعريف أوسع للقانون من تعريف الفقهاء الضيق الذي يستند إلى الدولة. وينظر غورفيتش إلى القانون باعتباره ظاهرة اجتماعية تُعنى بتحقيق "العدالة" وبأن شرعيته تنبع من "الحقل التشريعي" (normative field)، الذي يحدد المهام التي يضطلع بها الناس والمسؤوليات الملقاة على عاتقهم. ويفترض غورفيتش بأنه عندما يتجاهل طلاب القانون القيم الأخلاقية والاجتماعية التي يقوم القانون بعمومه على أساسها، فإنهم يقيدونه بمجرد أسلوب، ويتعاملون معه باعتباره أداة تقنية تستخدمها الدولة دون إعادة تنظيم انطلاق القانون من القيم الاجتماعية، بالإضافة إلى أهمية القيم الاجتماعية بالنسبة لوجود الدولة بصفتها سلطة شرعية ممأسسة. كما وضع غورفيتش مفهوم السلطة في موضع مركزي بالنسبة للقانون: "إن السلطة باعتبارها مرتبطة بالقانون هي بذاتها تستند إلى القانون".[6]
وفضلاً عما تقدم، قدم عدد كبير من علماء الاجتماع إسهامات جمة لسوسيولوجيا القانون،[7] من بينهم ميشيل فوكو (Michel Foucault). وعلى الرغم من أن القانون بذاته لم يكن أبداً من بين المجالات الرئيسية التي ركز عليها فوكو، فقد عُنيت كثير من المواضيع الرئيسية التي طرحها بمسائل الحكم والسلطة التي تكتسب أهمية مباشرة بالنسبة للقانون. ومن جانب آخر، يعتبر البعض مؤلفات هابيرماس (Habermas) ذات أهمية في دراسة القانون والمجتمع، ولا سيما أفكاره حول بروز الحيز العام وحقبة ما بعد الحداثة وزوالهما.
ويتجه علماء الاجتماع المعاصرون إلى دراسة القانون من خلال مجموعة منتقاة من الأفكار الكلاسيكية، المستقاة من القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث يوظف هؤلاء العلماء النماذج المذكورة أعلاه بعد إدخال بعض التنقيح والتعديل عليها، إلى جانب منهجيات متباينة وبيانات جديدة واهتمامات جديدة كذلك. وعلاوةً على ذلك، يتم تطبيق المناهج النوعية إلى جانب المناهج الكمّية في الدراسات المتعلقة بالمحاكم والمحامين والسجون والشرطة. كما تتم دراسة البراهين القانونية باعتبارها نصوصاً تجلي القيم والمصالح وتخفيها. وقد أضحت التكلفة التي يفرضها السعي إلى "العدالة" والوصول إلى "العدالة" مسائل تتبوأ مكان الصدارة في حقل الدراسات الاجتماعية القانونية؛ حيث ينكبّ علماء اقتصاد القانون على دراسة القيم السامية التي يفترض بالمبادئ القانونية أن تعبر عنها، وليس على نجاعتها وتأثيرها الاجتماعي وليس على مجرد المحتوى الأخلاقي المحدد فيها بذاتها. وقد أضاف الأنثروبولوجيون – المختصون بدراسة علم الإنسان – الكثير إلى المعارف المتعلقة بالأنظمة القانونية والاجتماعية في المجتمعات غير الغربية. وفي هذا السياق، أظهرت البيانات الإثنوغرافية التي تم جمعها من خلال الملاحظة المباشرة كيف تجري المحافظة على النظام في المجتمعات الصغيرة بمعزل عن الحكومة. كما تم الاعتراف بالانتشار الكثيف للأنظمة القانونية المتعددة وبأهميتها في عالم ما بعد الاستعمار، وتم كذلك إيلاء قدر متزايد من الاهتمام بالعلاقة القائمة بين القانون والصراع، والتعددية الثقافية والإثنية، والطبقات الاجتماعية والنوع الاجتماعي. وشهدت الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية تطبيق التحليل الاقتصادي بصورة منهجية على الظواهر القانونية والإجراءات القانونية.
إن علماء الاجتماع يبدون اهتماماً في مختلف جوانب الظواهر القانونية لعدد كبير من الأسباب؛ فبعضهم يجمع المعلومات والبيانات من أجل استخدامها لطرح الإصلاح في النظام القانوني أو في بعض الجوانب منه، بينما يحاول آخرون فهم العلاقة التي تربط الوظائف الفعلية التي تتولاها المؤسسات القانونية والتفسير الذاتي (الأيديولوجيا) التي تتبناها بهدف زيادة المعرفة.
[1] Economic and Social Research Council, A Review of Socio Legal Studies, London, 1994.
[2] Weber, M. Max Weber on Law in Economy and Society, ed. M. Feinstein, Cambridge, MA, 1954.
[3] Durkheim, E. The Division of Labour in Society. Glencoe, Il, 1960.
[4] أنظر مثلاً: Ehrlich, E., Fundamental Principles of the Sociology of Law. Cambridge, MA, 1936.
[5]أنظر كتابه المميز: Georges Gurvitch, Sociology of Law, London: Routledge and Kegan Paul, 1947.
وقد شغل غورفيتش منصب رئيس دائرة علم الاجتماع في جامعة السوربون من عام 1949 حتى وفاته عام 1965.
[6] Ibid, p. 150.
[7] Roger Cotterell, “Subverting Orthodoxy, Making Law Central: A View of Socio-legal Studies”, Journal of Law and Society, vol. 29, n.4, December 2002, p.635.